الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

اَلْفَصْلُ ٣٥

الموعظة الشهيرة على الجبل

الموعظة الشهيرة على الجبل

متى ٥:‏١–‏٧:‏٢٩ لوقا ٦:‏​١٧-‏٤٩

  • يَسُوعُ يُلْقِي ٱلْمَوْعِظَةَ عَلَى ٱلْجَبَلِ

لَا بُدَّ أَنَّ ٱلتَّعَبَ أَخَذَ بِيَسُوعَ بَعْدَمَا صَلَّى ٱللَّيْلَ بِطُولِهِ وَمِنْ ثُمَّ ٱخْتَارَ مِنْ تَلَامِيذِهِ ١٢ رَسُولًا.‏ لٰكِنَّ عَزْمَهُ عَلَى مُسَاعَدَةِ ٱلنَّاسِ لَا يَفْتُرُ.‏ فَفِي ٱلصَّبَاحِ،‏ يُوَاصِلُ خِدْمَتَهُ عِنْدَ سَفْحِ ذَاكَ ٱلْجَبَلِ فِي ٱلْجَلِيلِ ٱلَّذِي لَا يَبْعُدُ رُبَّمَا عَنْ كَفَرْنَاحُومَ،‏ ٱلْمَدِينَةِ ٱلَّتِي يَتَّخِذُهَا نُقْطَةَ ٱنْطِلَاقٍ لَهُ.‏

لَقَدْ تَقَاطَرَتْ جَمَاهِيرُ ٱلنَّاسِ إِلَى هُنَاكَ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ:‏ اَلْبَعْضُ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَنَاطِقَ أُخْرَى فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ جَنُوبًا،‏ وَآخَرُونَ مِنَ ٱلْمَدِينَتَيْنِ ٱلسَّاحِلِيَّتَيْنِ صُورَ وَصَيْدُونَ فِي ٱلشَّمَالِ ٱلْغَرْبِيِّ.‏ وَلٰكِنْ لِمَ أَتَوْا بَحْثًا عَنْ يَسُوعَ؟‏ «لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ».‏ وَبِٱلْفِعْلِ ‹يَشْفِيهِمْ جَمِيعًا› دُونَ ٱسْتِثْنَاءٍ،‏ بِمَنْ فِيهِمِ «ٱلَّذِينَ تُزْعِجُهُمُ ٱلْأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ»،‏ أَيْ مَلَائِكَةُ ٱلشَّيْطَانِ ٱلْأَشْرَارُ.‏ —‏ لوقا ٦:‏​١٧-‏١٩‏.‏

بَعْدَ ذٰلِكَ،‏ يَجْلِسُ يَسُوعُ فِي مَكَانٍ مُسْتَوٍ عَلَى سَفْحِ ٱلْجَبَلِ وَتَتَحَلَّقُ ٱلْجُمُوعُ حَوْلَهُ.‏ وَيُرَجَّحُ أَنَّ ٱلْأَقْرَبَ إِلَيْهِ هُمْ تَلَامِيذُهُ،‏ وَلَا سِيَّمَا ٱلرُّسُلُ ٱلِـ‍ ١٢.‏ وَٱلْجَمِيعُ مُتَشَوِّقُونَ إِلَى سَمَاعِ هٰذَا ٱلْمُعَلِّمِ ٱلَّذِي يَجْتَرِحُ عَجَائِبَ مُذْهِلَةً.‏ فَيُلْقِي عَلَى مَسَامِعِهِمْ مَوْعِظَةً غَنِيَّةً بِٱلْحِكَمِ ٱسْتَفَادَ مِنْهَا عَلَى مَرِّ ٱلزَّمَنِ أُنَاسٌ لَا حَصْرَ لَهُمْ وَلَا عَدَدَ‏.‏ نَحْنُ أَيْضًا فِي وِسْعِنَا أَنْ نَسْتَقِيَ مِنْهَا ٱلدُّرُوسَ.‏ فَبِٱلْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ حَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ عَمِيقَةٍ مَصُوغَةٍ بِكَلِمَاتٍ بَسِيطَةٍ وَوَاضِحَةٍ،‏ يَسْتَعْمِلُ فِيهَا يَسُوعُ مَفَاهِيمَ وَإِيضَاحَاتٍ مَأْخُوذَةً مِنْ وَاقِعِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ.‏ وَهٰذَا يُسَهِّلُ فَهْمَ أَفْكَارِهِ عَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يَصْبُونَ إِلَى ٱلْعَيْشِ حَيَاةً أَفْضَلَ بِٱتِّبَاعِ إِرْشَادِ ٱللّٰهِ.‏ فَمَا هِيَ بَعْضُ ٱلْأَوْجُهِ ٱلرَّئِيسِيَّةِ لِهٰذِهِ ٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْقَيِّمَةِ لِلْغَايَةِ؟‏

مَنْ هُمْ حَقًّا سُعَدَاءُ؟‏

اَلسَّعَادَةُ هِيَ مُنْيَةُ قَلْبِ أَيِّ إِنْسَانٍ.‏ وَبِمَا أَنَّ يَسُوعَ يُدْرِكُ هٰذِهِ ٱلْحَقِيقَةَ،‏ يَبْدَأُ مَوْعِظَتَهُ بِوَصْفِ ٱلَّذِينَ هُمْ حَقًّا سُعَدَاءُ.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَسْتَقْطِبُ ٱنْتِبَاهَ سَامِعِيهِ،‏ وَفِي ٱلْوَقْتِ عَيْنِهِ يُحَيِّرُهُمْ بِأَفْكَارٍ يَقُولُهَا.‏

يَذْكُرُ:‏ «سُعَدَاءُ هُمُ ٱلَّذِينَ يُدْرِكُونَ حَاجَتَهُمُ ٱلرُّوحِيَّةَ،‏ فَإِنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمٰوَاتِ.‏ سُعَدَاءُ هُمُ ٱلنَّائِحُونَ،‏ فَإِنَّهُمْ يُعَزَّوْنَ .‏ .‏ .‏ سُعَدَاءُ هُمُ ٱلْجِيَاعُ وَٱلْعِطَاشُ إِلَى ٱلْبِرِّ،‏ فَإِنَّهُمْ يُشْبَعُونَ .‏ .‏ .‏ سُعَدَاءُ هُمُ ٱلْمُضْطَهَدُونَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ،‏ فَإِنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمٰوَاتِ.‏ سُعَدَاءُ أَنْتُمْ مَتَى عَيَّرُوكُمْ وَٱضْطَهَدُوكُمْ .‏ .‏ .‏ مِنْ أَجْلِي .‏ .‏ .‏ اِفْرَحُوا وَٱطْفِرُوا مِنَ ٱلْفَرَحِ».‏ —‏ متى ٥:‏​٣-‏١٢‏.‏

فَعَنْ أَيَّةِ ‹سَعَادَةٍ› يَتَحَدَّثُ؟‏ إِنَّهُ لَا يَقْصِدُ ٱلشُّعُورَ بِٱلْمَرَحِ وَٱلْبَهْجَةِ ٱلَّذِي يُحِسُّهُ ٱلْمَرْءُ مَثَلًا عِنْدَ قَضَاءِ وَقْتٍ طَيِّبٍ.‏ فَٱلسَّعَادَةُ ٱلْحَقِيقِيَّةُ لَهَا مَعْنًى أَعْمَقُ.‏ إِنَّهَا شُعُورٌ بِٱلْقَنَاعَةِ وَٱلرِّضَى وَٱلْإِنْجَازِ فِي ٱلْحَيَاةِ.‏

لِذَا يَقُولُ يَسُوعُ إِنَّ ٱلسُّعَدَاءَ بِحَقٍّ هُمُ ٱلَّذِينَ يُدْرِكُونَ حَاجَتَهُمُ ٱلرُّوحِيَّةَ،‏ يَحْزَنُونَ جَرَّاءَ حَالَتِهِمِ ٱلْخَاطِئَةِ،‏ وَيَتَعَرَّفُونَ بِٱللّٰهِ وَيَخْدُمُونَهُ.‏ وَهٰؤُلَاءِ لَا تَخْبُو سَعَادَتُهُمْ وَإِنْ وَاجَهُوا ٱلْبُغْضَ أَوِ ٱلِٱضْطِهَادَ لِقَاءَ فِعْلِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ.‏ فَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَاضٍ عَنْهُمْ وَسَيُكَافِئُهُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ.‏

وَلٰكِنْ يَظُنُّ كَثِيرُونَ أَنَّ ٱلسَّعَادَةَ تَتَأَتَّى عَنِ ٱلتَّنَعُّمِ بِٱلْغِنَى وَٱلْمَلَذَّاتِ.‏ فَيَأْتِي يَسُوعُ بِفِكْرَةٍ مُنَاقِضَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا تَحْمِلُ ٱلْكَثِيرَ مِنْ سَامِعِيهِ عَلَى ٱلتَّفْكِيرِ.‏ يَذْكُرُ:‏ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْأَغْنِيَاءُ،‏ لِأَنَّكُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَيْتُمْ عَزَاءَكُمْ.‏ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى ٱلْآنَ،‏ لِأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ.‏ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّاحِكُونَ ٱلْآنَ،‏ لِأَنَّكُمْ سَتَنُوحُونَ وَتَبْكُونَ.‏ وَيْلٌ لَكُمْ مَتَى قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَنًا،‏ فَهٰكَذَا فَعَلَ آبَاؤُهُمْ بِٱلْأَنْبِيَاءِ ٱلدَّجَّالِينَ».‏ —‏ لوقا ٦:‏​٢٤-‏٢٦‏.‏

فَلِمَ أُمُورٌ مِثْلُ ٱلْغِنَى وَٱلضَّحِكِ وَنَيْلِ ٱلْإِطْرَاءِ تَجْلُبُ ٱلْوَيْلَ؟‏ لِأَنَّ ٱلَّذِي يُولِيهَا أَهَمِّيَّةً أَكْثَرَ مِنَ ٱللَّازِمِ قَدْ يُهْمِلُ خِدْمَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي وَحْدَهَا تُشْعِرُهُ بِٱلسَّعَادَةِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ.‏ طَبْعًا،‏ لَا يَعْنِي يَسُوعُ أَنَّ ٱلْفَقْرَ وَٱلْجُوعَ بِحَدِّ ذَاتِهِمَا يَمْنَحَانِ ٱلسَّعَادَةَ.‏ وَلٰكِنْ بِشَكْلٍ عَامٍّ،‏ ٱلْمَسَاكِينُ وَٱلْبُؤَسَاءُ هُمْ مَنْ يَتَجَاوَبُونَ مَعَ تَعَالِيمِهِ وَيَحْظَوْنَ بِٱلسَّعَادَةِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ.‏

يَقُولُ يَسُوعُ قَاصِدًا تَلَامِيذَهُ:‏ «أَنْتُمْ مِلْحُ ٱلْأَرْضِ».‏ (‏متى ٥:‏١٣‏)‏ وَهُوَ بِٱلتَّأْكِيدِ لَا يَتَحَدَّثُ حَرْفِيًّا.‏ فَمَاذَا إِذًا؟‏ إِنَّ ٱلْمِلْحَ مَادَّةٌ حَافِظَةٌ.‏ وَتُوضَعُ كَوْمَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُ قُرْبَ ٱلْمَذْبَحِ فِي هَيْكَلِ ٱللّٰهِ لِتَمْلِيحِ ٱلْقَرَابِينِ.‏ كَمَا أَنَّهُ يَرْمُزُ إِلَى ٱلْخُلُوِّ مِنَ ٱلْفَسَادِ.‏ (‏لاويين ٢:‏١٣؛‏ حزقيال ٤٣:‏​٢٣،‏ ٢٤‏)‏ لِذَا تَلَامِيذُ يَسُوعَ هُمْ «مِلْحُ ٱلْأَرْضِ» بِمَعْنَى أَنَّ رِسَالَتَهُمْ تَحْفَظُ حَيَاةَ مَنْ يَتَجَاوَبُونَ مَعَهَا،‏ إِذْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى تَجَنُّبِ ٱلْفَسَادِ ٱلرُّوحِيِّ وَٱلْأَخْلَاقِيِّ.‏

وَيَقُولُ لِتَلَامِيذِهِ أَيْضًا:‏ «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ».‏ فَٱلسِّرَاجُ لَا يُخْفَى تَحْتَ مِكْيَالٍ،‏ بَلْ يُوضَعُ عَلَى مَنَارَةٍ لِكَيْ يُشِعَّ نُورُهُ.‏ وَعَلَيْهِ يَحُضُّهُمْ:‏ «لِيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ،‏ لِيَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمٰوَاتِ».‏ —‏ متى ٥:‏​١٤-‏١٦‏.‏

مَقَايِيسُ رَفِيعَةٌ لِلسُّلُوكِ

يَرَى ٱلْقَادَةُ ٱلدِّينِيُّونَ ٱلْيَهُودُ أَنَّ يَسُوعَ يَتَعَدَّى عَلَى شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ،‏ حَتَّى إِنَّهُمْ حَاكُوا مُؤَخَّرًا مُؤَامَرَةً لِقَتْلِهِ.‏ لِذَا يُصَرِّحُ قَائِلًا:‏ «لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ ٱلشَّرِيعَةَ أَوِ ٱلْأَنْبِيَاءَ.‏ مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ،‏ بَلْ لِأُتَمِّمَ».‏ —‏ متى ٥:‏١٧‏.‏

فَهُوَ يَحْتَرِمُ شَرِيعَةَ ٱللّٰهِ غَايَةَ ٱلِٱحْتِرَامِ وَيَحُثُّ ٱلْآخَرِينَ أَنْ يَحْذُوا حَذْوَهُ.‏ حَتَّى إِنَّهُ يَذْكُرُ:‏ «مَنْ نَقَضَ وَاحِدَةً مِنْ هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى،‏ وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَا،‏ يُدْعَى ‹ٱلْأَقَلَّ أَهْلِيَّةً› لِمَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ»،‏ مَا مُفَادُهُ أَنَّ شَخْصًا كَهٰذَا لَنْ يَطَأَ عَتَبَةَ ٱلْمَلَكُوتِ إِطْلَاقًا.‏ وَيُتَابِعُ:‏ «أَمَّا مَنْ عَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا،‏ فَهٰذَا يُدْعَى ‹عَظِيمَ ٱلْأَهْلِيَّةِ› لِمَلَكُوتِ ٱلسَّمٰوَاتِ».‏ —‏ متى ٥:‏١٩‏.‏

وَفِي ٱلْوَاقِعِ،‏ يَدِينُ يَسُوعُ حَتَّى ٱلْمَوَاقِفَ ٱلَّتِي تُؤَدِّي إِلَى كَسْرِ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ.‏ فَبَعْدَ ٱلْإِشَارَةِ إِلَى ٱلشَّرِيعَةِ ٱلَّتِي تَقُولُ «لَا تَقْتُلْ»،‏ يُضِيفُ:‏ «كُلُّ مَنْ بَقِيَ سَاخِطًا عَلَى أَخِيهِ يُحَاسَبُ أَمَامَ مَحْكَمَةِ ٱلْعَدْلِ».‏ (‏متى ٥:‏​٢١،‏ ٢٢‏)‏ فَإِضْمَارُ ٱلسُّخْطِ مَسْأَلَةٌ خَطِيرَةٌ،‏ وَقَدْ تَدْفَعُ ٱلْمَرْءَ إِلَى ٱلْقَتْلِ.‏ مِنْ هُنَا يُوضِحُ يَسُوعُ إِلَى أَيِّ مَدًى يَنْبَغِي ٱلسَّعْيُ فِي أَثَرِ ٱلسَّلَامِ،‏ قَائِلًا:‏ «إِذَا كُنْتَ تُحْضِرُ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ،‏ فَٱتْرُكْ قُرْبَانَكَ هُنَاكَ أَمَامَ ٱلْمَذْبَحِ وَٱذْهَبْ صَالِحْ أَخَاكَ أَوَّلًا،‏ وَحِينَئِذٍ ٱرْجِعْ وَقَرِّبْ قُرْبَانَكَ».‏ —‏ متى ٥:‏​٢٣،‏ ٢٤‏.‏

ثُمَّ يُعَلِّقُ عَلَى وَصِيَّةٍ أُخْرَى فِي ٱلشَّرِيعَةِ تُحَرِّمُ ٱلزِّنَى،‏ فَيَذْكُرُ:‏ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ:‏ ‹لَا تَزْنِ›.‏ أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَى ٱلنَّظَرِ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا،‏ فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ».‏ (‏متى ٥:‏​٢٧،‏ ٢٨‏)‏ لَا يَتَحَدَّثُ يَسُوعُ هُنَا عَنْ مُجَرَّدِ فِكْرَةٍ فَاسِدَةٍ عَابِرَةٍ.‏ بَلْ يُشَدِّدُ عَلَى خُطُورَةِ ‹ٱلْمُدَاوَمَةِ عَلَى ٱلنَّظَرِ› ٱلَّتِي غَالِبًا مَا تُوقِظُ فِي ٱلْمَرْءِ رَغَبَاتٍ شَهْوَانِيَّةً،‏ فَيَنْجَرُّ إِلَى ٱلزِّنَى مَتَى سَنَحَتْ لَهُ ٱلْفُرْصَةُ.‏ فَمَا ٱلسَّبِيلُ إِلَى تَجَنُّبِ هٰذَا ٱلْمَسْلَكِ؟‏ قَدْ يَلْزَمُ ٱتِّخَاذُ إِجْرَاءَاتٍ صَارِمَةٍ.‏ يُوصِي يَسُوعُ:‏ «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ،‏ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ .‏ .‏ .‏ وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ،‏ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ».‏ —‏ متى ٥:‏​٢٩،‏ ٣٠‏.‏

يَرْضَى ٱلْبَعْضُ بِبَتْرِ عُضْوٍ مَعْطُوبٍ لِئَلَّا يَخْسَرُوا حَيَاتَهُمْ.‏ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَنْصَحَ يَسُوعُ ‹بِإِلْقَاءِ› أَيِّ شَيْءٍ،‏ مَهْمَا كَانَ ثَمِينًا كَٱلْعَيْنِ أَوِ ٱلْيَدِ،‏ قَدْ يُثِيرُ ٱلتَّفْكِيرَ ٱلْفَاسِدَ وَيَدْفَعُ إِلَى ٱرْتِكَابِ ٱلْخَطَإِ.‏ يُوضِحُ:‏ «أَنْفَعُ لَكَ أَنْ تَخْسَرَ أَحَدَ أَعْضَائِكَ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ جَسَدُكَ كُلُّهُ إِلَى وَادِي هِنُّومَ».‏ وَهٰذَا ٱلْوَادِي مِكَبٌّ لِحَرْقِ ٱلنُّفَايَاتِ خَارِجَ أَسْوَارِ أُورُشَلِيمَ يَرْمُزُ إِلَى ٱلْهَلَاكِ ٱلْأَبَدِيِّ.‏

يَنْصَحُ يَسُوعُ سَامِعِيهِ أَيْضًا كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِمْ،‏ قَائِلًا:‏ «لَا تُقَاوِمُوا ٱلشِّرِّيرَ،‏ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلْأَيْمَنِ،‏ فَأَدِرْ لَهُ ٱلْآخَرَ أَيْضًا».‏ (‏متى ٥:‏٣٩‏)‏ لَا يَعْنِي ذٰلِكَ أَنَّ مِنَ ٱلْخَطَإِ أَنْ يُدَافِعَ ٱلْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَائِلَتِهِ عِنْدَ ٱلتَّعَرُّضِ لِهُجُومٍ.‏ فَيَسُوعُ يَتَحَدَّثُ هُنَا عَنِ ٱللَّطْمَةِ،‏ وَهِيَ تُوَجَّهُ عَادَةً لِإِهَانَةِ ٱلشَّخْصِ وَلَيْسَ لِإِلْحَاقِ أَذًى جَسِيمٍ بِهِ أَوْ قَتْلِهِ.‏ فَمَا ٱلْفِكْرَةُ إِذًا؟‏ إِنْ حَاوَلَ أَحَدٌ ٱفْتِعَالَ عِرَاكٍ أَوْ مُشَادَّةٍ كَلَامِيَّةٍ مَعَ آخَرَ،‏ بِتَوْجِيهِ لَطْمَةٍ حَرْفِيَّةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ جَارِحَةٍ،‏ فَلَا يَنْبَغِي لِلطَّرَفِ ٱلْمُهَانِ أَنْ يَرُدَّ ٱلصَّاعَ بِٱلصَّاعِ.‏

وَهٰذِهِ ٱلْمَشُورَةُ تَنْسَجِمُ مَعَ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي تُوصِي بِمَحَبَّةِ ٱلْقَرِيبِ.‏ وَلٰكِنْ فَوْقَ ذٰلِكَ،‏ يُوصِي يَسُوعُ سَامِعِيهِ:‏ «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ».‏ وَيُعْطِي سَبَبًا وَجِيهًا قَائِلًا:‏ «لِتَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمٰوَاتِ،‏ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلْأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ».‏ —‏ متى ٥:‏​٤٤،‏ ٤٥‏.‏

يُلَخِّصُ يَسُوعُ هٰذَا ٱلْجُزْءَ مِنْ مَوْعِظَتِهِ بِٱلْقَوْلِ:‏ «كُونُوا كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ هُوَ كَامِلٌ».‏ (‏متى ٥:‏٤٨‏)‏ طَبْعًا،‏ يَسْتَحِيلُ عَلَيْنَا بُلُوغُ ٱلْكَمَالِ بِٱلْمَعْنَى ٱلْمُطْلَقِ.‏ وَلٰكِنْ حِينَ نَقْتَدِي بِٱللّٰهِ،‏ نُوَسِّعُ نِطَاقَ مَحَبَّتِنَا فَنَشْمُلُ حَتَّى أَعْدَاءَنَا.‏ بِكَلِمَاتٍ أُخْرَى يَقُولُ يَسُوعُ:‏ «كُونُوا دَوْمًا رُحَمَاءَ،‏ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ».‏ —‏ لوقا ٦:‏٣٦‏.‏

اَلصَّلَاةُ وَٱلتَّوَكُّلُ عَلَى ٱللّٰهِ

بَيْنَمَا يُتَابِعُ يَسُوعُ مَوْعِظَتَهُ،‏ يَحُضُّ سَامِعِيهِ:‏ «اِحْتَرِزُوا جَيِّدًا مِنْ أَنْ تَعْمَلُوا بِرَّكُمْ أَمَامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوا إِلَيْكُمْ».‏ وَيُضِيفُ شَاجِبًا ٱلرِّيَاءَ وَٱلتَّظَاهُرَ بِٱلتَّقْوَى:‏ «مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تَنْفُخْ أَمَامَكَ فِي بُوقٍ،‏ كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ».‏ (‏متى ٦:‏​١،‏ ٢‏)‏ فَمِنَ ٱلْأَفْضَلِ تَقْدِيمُ ٱلصَّدَقَاتِ دُونَ لَفْتِ ٱلْأَنْظَارِ.‏

وَيُوَاصِلُ:‏ «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَلَا تَكُونُوا كَٱلْمُرَائِينَ،‏ لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا وَاقِفِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ ٱلرَّئِيسِيَّةِ لِيَرَاهُمُ ٱلنَّاسُ».‏ وَيَنْصَحُ بِٱلْمُقَابِلِ:‏ «مَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ مَخْدَعَكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ،‏ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ».‏ (‏متى ٦:‏​٥،‏ ٦‏)‏ لَا يُعَارِضُ يَسُوعُ ٱلصَّلَوَاتِ ٱلْعَلَنِيَّةَ،‏ فَهُوَ نَفْسُهُ رَفَعَ مِثْلَهَا.‏ بَلْ يَدِينُ ٱلصَّلَوَاتِ ٱلَّتِي تَهْدِفُ إِلَى إِبْهَارِ ٱلسَّامِعِينَ وَكَسْبِ إِطْرَائِهِمْ.‏

ثُمَّ يَنْصَحُ ٱلْجَمْعَ:‏ «عِنْدَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا ٱلْأُمُورَ نَفْسَهَا كَمَا يَفْعَلُ ٱلْأُمَمِيُّونَ».‏ (‏متى ٦:‏٧‏)‏ لَيْسَ خَطَأً أَنْ نُصَلِّيَ مِرَارًا وَتَكْرَارًا بِشَأْنِ مَسْأَلَةٍ مَا.‏ فَمَا يَسْتَنْكِرُهُ يَسُوعُ ‹تَكْرَارُ› عِبَارَاتٍ مُسْتَظْهَرَةٍ دُونَ ٱلتَّفْكِيرِ فِي مَعْنَاهَا.‏ بَعْدَ ذٰلِكَ،‏ يُزَوِّدُ صَلَاةً نَمُوذَجِيَّةً تَتَضَمَّنُ سَبْعَةَ ٱلْتِمَاسَاتٍ.‏ اَلثَّلَاثَةُ ٱلْأُولَى تَعْتَرِفُ بِحَقِّ ٱللّٰهِ فِي ٱلْحُكْمِ وَتَرْجُو تَحْقِيقَ مَقَاصِدِهِ:‏ أَنْ يَتَقَدَّسَ ٱسْمُهُ،‏ يَأْتِيَ مَلَكُوتُهُ،‏ وَتَتِمَّ مَشِيئَتُهُ.‏ أَمَّا ٱلطَّلَبَاتُ ٱلشَّخْصِيَّةُ فَتَأْتِي فِي ٱلْمَرْتَبَةِ ٱلثَّانِيَةِ:‏ أَنْ يُزَوِّدَنَا بِٱلطَّعَامِ ٱلْيَوْمِيِّ،‏ يَغْفِرَ خَطَايَانَا،‏ يُجَنِّبَنَا ٱلتَّجَارِبَ ٱلَّتِي تَفُوقُ طَاقَتَنَا عَلَى ٱلِٱحْتِمَالِ،‏ وَيُنَجِّيَنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ.‏

وَمَاذَا يَقُولُ يَسُوعُ بِشَأْنِ ٱلْمُمْتَلَكَاتِ ٱلْمَادِّيَّةِ؟‏ يَحُضُّ ٱلْجَمْعَ:‏ «لَا تَدَّخِرُوا بَعْدُ لِأَنْفُسِكُمْ كُنُوزًا عَلَى ٱلْأَرْضِ،‏ حَيْثُ يُفْسِدُ عُثٌّ وَصَدَأٌ،‏ وَحَيْثُ يَقْتَحِمُ سَارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ».‏ فَيَا لَهَا مِنْ مَشُورَةٍ سَدِيدَةٍ!‏ فَٱلْكُنُوزُ ٱلْمَادِّيَّةُ فَانِيَةٌ،‏ وَهِيَ لَا تُكْسِبُنَا أَيَّةَ قِيمَةٍ فِي نَظَرِ ٱللّٰهِ.‏ مِنْ هُنَا،‏ يُرْدِفُ يَسُوعُ:‏ «اِدَّخِرُوا لِأَنْفُسِكُمْ كُنُوزًا فِي ٱلسَّمَاءِ».‏ كَيْفَ؟‏ بِوَضْعِ خِدْمَةِ ٱللّٰهِ أَوَّلًا فِي حَيَاتِنَا.‏ وَعِنْدَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُفْسِدَ صِيتَنَا ٱلْحَسَنَ لَدَى ٱللّٰهِ أَوْ يَسْلُبَنَا مُكَافَأَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ.‏ فَمَا أَصَحَّ كَلِمَاتِ يَسُوعَ:‏ «حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا».‏ —‏ متى ٦:‏​١٩-‏٢١‏.‏

وَتَشْدِيدًا عَلَى هٰذِهِ ٱلنُّقْطَةِ،‏ يُعْطِي ٱلْإِيضَاحَ ٱلتَّالِيَ:‏ «سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ.‏ فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً،‏ يَكُونُ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّرًا؛‏ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً،‏ يَكُونُ جَسَدُكَ كُلُّهُ مُظْلِمًا».‏ (‏متى ٦:‏​٢٢،‏ ٢٣‏)‏ فَحِينَ تُؤَدِّي عَيْنُنَا ٱلْمَجَازِيَّةُ عَمَلَهَا عَلَى أَحْسَنِ مَا يُرَامُ،‏ تُصْبِحُ بِمَثَابَةِ سِرَاجٍ يُضِيءُ جَسَدَنَا.‏ وَهٰذَا يَتَطَلَّبُ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّزَةً عَلَى هَدَفٍ مُحَدَّدٍ،‏ وَإِلَّا تَخْتَلُّ أَوْلَوِيَّاتُنَا فِي ٱلْحَيَاةِ.‏ فَإِذَا ٱنْصَبَّ ٱهْتِمَامُنَا عَلَى ٱلْمُمْتَلَكَاتِ ٱلْمَادِّيَّةِ عِوَضَ خِدْمَةِ ٱللّٰهِ،‏ يَصِيرُ ‹جَسَدُنَا كُلُّهُ مُظْلِمًا›،‏ إِذْ نَنْجَرُّ إِلَى ٱقْتِرَافِ أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَاطِئَةِ.‏

ثُمَّ يُعْطِي يَسُوعُ مِثَالًا مُقْنِعًا:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِرَبَّيْنِ،‏ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلْآخَرَ،‏ أَوْ يَلْتَصِقَ بِٱلْوَاحِدِ وَيَحْتَقِرَ ٱلْآخَرَ.‏ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَكُونُوا عَبِيدًا لِلّٰهِ وَٱلْمَالِ».‏ —‏ متى ٦:‏٢٤‏.‏

وَلٰكِنْ لَعَلَّ مَسْأَلَةَ تَأْمِينِ لُقْمَةِ ٱلْعَيْشِ تُقْلِقُ بَعْضَ سَامِعِيهِ.‏ فَيُؤَكِّدُ لَهُمْ أَنْ لَا دَاعِيَ لِحَمْلِ هٰذَا ٱلْهَمِّ مَا دَامُوا يَضَعُونَ خِدْمَةَ ٱللّٰهِ فِي ٱلْمَقَامِ ٱلْأَوَّلِ.‏ يَقُولُ:‏ «تَأَمَّلُوا طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ،‏ لِأَنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ،‏ وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا».‏ —‏ متى ٦:‏٢٦‏.‏

كَذٰلِكَ هِيَ زَنَابِقُ ٱلْحَقْلِ ٱلنَّامِيَةُ عَلَى ٱلْجَبَلِ مِنْ حَوْلِهِمْ.‏ فَيَسُوعُ يَذْكُرُ «أَنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ تَسَرْبَلَ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا».‏ وَمَا ٱلْعِبْرَةُ؟‏ «إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ هٰكَذَا يَكْسُو نَبْتَ ٱلْحَقْلِ،‏ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُلْقَى غَدًا فِي ٱلتَّنُّورِ،‏ أَفَلَا يَكْسُوكُمْ بِٱلْأَحْرَى أَنْتُمْ»؟‏ (‏متى ٦:‏​٢٩،‏ ٣٠‏)‏ لِذَا يُسْدِي إِلَيْهِمْ هٰذِهِ ٱلْمَشُورَةَ ٱلْحَكِيمَةَ:‏ «لَا تَحْمِلُوا هَمًّا وَتَقُولُوا:‏ ‹مَاذَا نَأْكُلُ؟‏›،‏ أَوْ:‏ ‹مَاذَا نَشْرَبُ؟‏›،‏ أَوْ:‏ ‹مَاذَا نَلْبَسُ؟‏› .‏ .‏ .‏ فَإِنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا.‏ فَدَاوِمُوا أَوَّلًا عَلَى طَلَبِ مَلَكُوتِهِ وَبِرِّهِ،‏ وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».‏ —‏ متى ٦:‏​٣١-‏٣٣‏.‏

اَلطَّرِيقُ إِلَى ٱلْحَيَاةِ

يَرْغَبُ ٱلرُّسُلُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ ٱلْأَشْخَاصِ ٱلْمُخْلِصِينَ أَنْ يَعِيشُوا بِمَا يُرْضِي ٱللّٰهَ.‏ غَيْرَ أَنَّ ذٰلِكَ لَيْسَ سَهْلًا نَظَرًا إِلَى ٱلظُّرُوفِ ٱلْمُحِيطَةِ بِهِمْ.‏ فَٱلْكَثِيرُ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مَثَلًا يُحِبُّونَ ٱلِٱنْتِقَادَ وَيَدِينُونَ بِلَا رَحْمَةٍ.‏ لِذَا يُحَذِّرُ يَسُوعُ سَامِعِيهِ:‏ «لَا تَدِينُوا لِكَيْلَا تُدَانُوا.‏ فَإِنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ».‏ —‏ متى ٧:‏​١،‏ ٢‏.‏

وَيُوضِحُ أَيْضًا لِمَ مِنَ ٱلْخَطَرِ ٱتِّبَاعُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱلَّذِينَ يُفْرِطُونَ فِي ٱلِٱنْتِقَادِ،‏ قَائِلًا:‏ «أَيَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟‏ أَلَا يَهْوِي كِلَاهُمَا فِي حُفْرَةٍ؟‏».‏ إِذًا،‏ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ ٱلْمَرْءُ إِلَى ٱلْغَيْرِ بِعَيْنٍ ٱنْتِقَادِيَّةٍ؛‏ فَهٰذَا يُعَدُّ خَطَأً خَطِيرًا.‏ يَسْأَلُ يَسُوعُ:‏ «كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ:‏ ‹يَا أَخِي،‏ دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَشَّةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ›،‏ فِي حِينِ أَنَّكَ أَنْتَ لَا تَنْظُرُ ٱلْعَارِضَةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ؟‏ يَا مُرَائِي،‏ أَخْرِجْ أَوَّلًا ٱلْعَارِضَةَ مِنْ عَيْنِكَ أَنْتَ،‏ وَحِينَئِذٍ تَرَى جَيِّدًا كَيْفَ تُخْرِجُ ٱلْقَشَّةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ».‏ —‏ لوقا ٦:‏​٣٩-‏٤٢‏.‏

لٰكِنَّ تَجَنُّبَ ٱلِٱنْتِقَادِ لَا يَعْنِي عَدَمَ ٱلِٱتِّصَافِ بِٱلتَّمْيِيزِ.‏ يُوصِي يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ:‏ «لَا تُعْطُوا ٱلْكِلَابَ مَا هُوَ مُقَدَّسٌ،‏ وَلَا تُلْقُوا أَمَامَ ٱلْخَنَازِيرِ لآلِئَكُمْ».‏ (‏متى ٧:‏٦‏)‏ إِنَّ حَقَائِقَ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ ثَمِينَةٌ كَٱللَّآلِئِ.‏ فَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا ٱلْبَعْضُ،‏ فَعَلَى ٱلتَّلَامِيذِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَيَبْحَثُوا عَنِ ٱلْمُتَعَطِّشِينَ لِلْحَقِّ.‏

وَبِٱلْعَوْدَةِ إِلَى مَوْضُوعِ ٱلصَّلَاةِ،‏ يُشَدِّدُ يَسُوعُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ ٱلْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا،‏ قَائِلًا:‏ «دَاوِمُوا عَلَى ٱلسُّؤَالِ تُعْطَوْا».‏ وَتَأْكِيدًا أَنَّ ٱللّٰهَ يَسْتَجِيبُ ٱلصَّلَوَاتِ يَذْكُرُ:‏ «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزًا فَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟‏ .‏ .‏ .‏ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ كَيْفَ تُعْطُونَ أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا صَالِحَةً،‏ فَكَمْ بِٱلْأَحْرَى أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمٰوَاتِ يُعْطِي ٱلصَّالِحَاتِ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!‏».‏ —‏ متى ٧:‏​٧-‏١١‏.‏

بَعْدَ ذٰلِكَ،‏ يَضَعُ يَسُوعُ قَاعِدَةً سُلُوكِيَّةً تَكْتَسِبُ شُهْرَةً وَاسِعَةً:‏ «كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ،‏ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ».‏ أَوَلَيْسَ حَرِيًّا بِنَا جَمِيعًا أَنْ نَحْمِلَ هٰذَا ٱلْحَضَّ مَحْمَلَ ٱلْجِدِّ وَنُطَبِّقَهُ فِي تَعَامُلَاتِنَا مَعَ ٱلْغَيْرِ؟‏ غَيْرَ أَنَّ ذٰلِكَ لَيْسَ هَيِّنًا.‏ فَيَسُوعُ يُوصِي:‏ «اُدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَوَّابَةِ ٱلضَّيِّقَةِ،‏ لِأَنَّهُ وَاسِعٌ وَرَحْبٌ ٱلطَّرِيقُ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْهَلَاكِ،‏ وَكَثِيرُونَ هُمُ ٱلدَّاخِلُونَ مِنْهُ؛‏ إِنَّمَا ضَيِّقَةٌ ٱلْبَوَّابَةُ وَحَرِجٌ ٱلطَّرِيقُ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاةِ،‏ وَقَلِيلُونَ هُمُ ٱلَّذِينَ يَجِدُونَهُ».‏ —‏ متى ٧:‏​١٢-‏١٤‏.‏

وَلٰكِنْ قَدْ يُحَاوِلُ ٱلْبَعْضُ إِبْعَادَ ٱلتَّلَامِيذِ عَنْ طَرِيقِ ٱلْحَيَاةِ.‏ فَيُنَبِّهُ يَسُوعُ:‏ «اِحْذَرُوا ٱلْأَنْبِيَاءَ ٱلدَّجَّالِينَ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ فِي لِبَاسِ ٱلْخِرَافِ،‏ لٰكِنَّهُمْ فِي ٱلدَّاخِلِ ذِئَابٌ ضَارِيَةٌ».‏ (‏متى ٧:‏١٥‏)‏ فَمِثْلَمَا تُعْرَفُ ٱلْأَشْجَارُ ٱلْجَيِّدَةُ أَوِ ٱلرَّدِيئَةُ مِنْ ثِمَارِهَا،‏ حَسْبَمَا يَذْكُرُ يَسُوعُ،‏ كَذٰلِكَ ٱلنَّاسُ أَيْضًا.‏ فَٱلْأَنْبِيَاءُ ٱلدَّجَّالُونَ يُعْرَفُونَ مِنْ تَعَالِيمِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ.‏ عِلَاوَةً عَلَى ذٰلِكَ،‏ يُبَرْهِنُ ٱلْمَرْءُ أَنَّهُ تِلْمِيذٌ حَقِيقِيٌّ لِيَسُوعَ لَيْسَ بِٱلْكَلَامِ فَحَسْبُ بَلْ بِٱلْأَعْمَالِ أَيْضًا.‏ فَمَاذَا عَنِ ٱلَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّ يَسُوعَ رَبُّهُمْ وَلَا يَعْمَلُونَ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ؟‏ يُصَرِّحُ يَسُوعُ لَهُمْ:‏ «إِنِّي مَا عَرَفْتُكُمْ قَطُّ!‏ اِبْتَعِدُوا عَنِّي أَيُّهَا ٱلْمُتَعَدُّونَ عَلَى ٱلشَّرِيعَةِ».‏ —‏ متى ٧:‏٢٣‏.‏

ثُمَّ يَخْتَتِمُ مَوْعِظَتَهُ بِٱلْقَوْلِ:‏ «كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا،‏ يُشْبِهُ رَجُلًا فَطِينًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ.‏ فَهَطَلَ ٱلْمَطَرُ وَأَتَتِ ٱلْفَيَضَانَاتُ وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ وَصَدَمَتْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ،‏ فَلَمْ يَتَقَوَّضْ لِأَنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى ٱلصَّخْرِ».‏ (‏متى ٧:‏​٢٤،‏ ٢٥‏)‏ فَٱلْبَيْتُ صَمَدَ لِأَنَّ ٱلرَّجُلَ «حَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ أَسَاسًا عَلَى ٱلصَّخْرِ».‏ (‏لوقا ٦:‏٤٨‏)‏ إِذًا لَا يَكْفِي أَنْ نَسْمَعَ كَلِمَاتِ يَسُوعَ،‏ بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ كُلَّ مَا فِي وِسْعِنَا ‹لِنَعْمَلَ بِهَا›.‏

وَمَا ٱلْقَوْلُ فِي «مَنْ يَسْمَعُ» كَلَامَ يَسُوعَ وَ «لَا يَعْمَلُ بِهِ»؟‏ «يُشْبِهُ رَجُلًا أَحْمَقَ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلرَّمْلِ».‏ (‏متى ٧:‏٢٦‏)‏ وَمَا أَسْهَلَ أَنْ يَنْهَارَ هٰذَا ٱلْبَيْتُ بِفِعْلِ ٱلْمَطَرِ وَٱلْفَيَضَانَاتِ وَٱلرِّيَاحِ!‏

تَنْذَهِلُ ٱلْجُمُوعُ مِنْ طَرِيقَةِ تَعْلِيمِ يَسُوعَ خِلَالَ هٰذِهِ ٱلْمَوْعِظَةِ.‏ فَهُوَ يُعَلِّمُ كَمَنْ لَهُ سُلْطَةٌ،‏ لَا كَٱلْقَادَةِ ٱلدِّينِيِّينَ.‏ وَيُرَجَّحُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ مُسْتَمِعِيهِ يَغْدُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ.‏